كسينجر- دبلوماسية الشرق الأوسط.. دروس من "سيد اللعبة"

المؤلف: سلطان السعد القحطاني10.07.2025
كسينجر- دبلوماسية الشرق الأوسط.. دروس من "سيد اللعبة"

كنت تواقاً إلى محادثة معمقة مع الخبير الدبلوماسي المخضرم مارتن إنديك، قبيل رحيله الأخير. لقد أمضى إنديك سنوات طوال في فهم منطقة الشرق الأوسط وتعقيداتها، ثم قام بتوثيقها في كتاباته القيمة. وكان آخر ما أثرى به المكتبة السياسية، عملاً مهماً يسلط الضوء على شخصية سياسية فذة لن تتكرر، شخصية تركت بصمة واضحة في المنطقة، ألا وهو هنري كيسنجر. ويا للأسف، فقد وافت المنية إنديك قبل أن نشرع في حوارنا المخطط له حول كيسنجر، تجربته السياسية الثرية، وكتابه الرائع الذي اختار له عنواناً آسراً: «سيد اللعبة». هذا العنوان ما هو إلا تعبير بليغ ووصف دقيق لرجل ظل متوقداً بالنشاط والحيوية حتى آخر لحظة في حياته، رغم تجاوزه التسعين عاماً. إن كتاب إنديك يُعد مرجعاً بالغ الأهمية لفهم أبعاد دبلوماسية كيسنجر وتأثيرها العميق على مسيرة السلام في الشرق الأوسط، إذ يقدم تحليلاً دقيقاً لاستراتيجياته الذكية وتفاعلاته المعقدة مع قادة المنطقة.

في كتابه «سيد اللعبة: هنري كيسنجر وفن دبلوماسية الشرق الأوسط»، يستعرض مارتن إنديك، السفير الأمريكي الأسبق لدى إسرائيل، الدور المحوري الذي لعبه هنري كيسنجر، مستشار الأمن القومي ووزير الخارجية الأمريكي الأسبق، في مفاوضات السلام الحساسة التي أعقبت حرب أكتوبر عام 1973. يعتمد الكتاب بشكل أساسي على كم هائل من الوثائق السرية التي تم رفع الحظر عنها من الأرشيفين الأمريكي والإسرائيلي، بالإضافة إلى سلسلة من المقابلات الحصرية مع كيسنجر نفسه وعدد من المسؤولين البارزين الآخرين.

بفضل عبقريته الفذة، استطاع كيسنجر أن يحقق إنجازاً تاريخياً بالتوصل إلى ثلاث اتفاقيات سلام حاسمة، كان لها دور جوهري في تشكيل المشهد الدبلوماسي للشرق الأوسط: اتفاقيتان بين مصر وإسرائيل، واتفاقية أخرى بين إسرائيل وسوريا، مما ساهم بشكل كبير في إنهاء حالة الحرب التي استمرت لسنوات.

في ظل الأوضاع المضطربة التي تشهدها منطقتنا باستمرار، لا يسعنا إلا أن نتذكر كيف أن هذه القضية المحورية تنطوي على وجهات نظر قيمة، صادرة عن شخصيات تدرك تماماً الحدود التي يجب الوقوف عندها، خاصة عندما يتعلق الأمر بدعم الحليف الاستراتيجي للولايات المتحدة، ألا وهي إسرائيل، بدلاً من تقويض الاستقرار الإقليمي برمته وإشعال فتيل الفوضى في المنطقة.

برحيل السياسي الأمريكي البارز هنري كيسنجر، فقد الشرق الأوسط شاهداً حياً على مرحلة تاريخية مفصلية من الصراع العربي الإسرائيلي، وهو الصراع الذي لطخ المنطقة بظلاله القاتمة لعقود طويلة.

لقد جسد كيسنجر حالة استثنائية وفريدة في التاريخ السياسي الحديث، فقد حقق إنجازات ومكانة لم يحظ بها معظم العاملين في هذا المجال. لقد كان الطالب المتميز الذي درس السياسة بعمق، والمعلم القدير الذي قام بتدريس النظريات التي تعلمها لطلابه، ثم السياسي المحنك الذي درس النظريات وطبقها ببراعة على أرض الواقع.

سيظل الحديث عن كيسنجر مستمراً، كما هو الحال مع أي شخصية تاريخية بارزة تركت بصمة واضحة في عالمنا، عالم مليء بالسياسيين والمغامرين والشهداء. لم تكن الموهبة الفذة واليقظة الفكرية الثاقبة هما العاملين الوحيدين وراء نجاحه، بل لعب القدر أيضاً دوراً محورياً في ذلك.

لا شك أن المكون اليهودي في شخصية هذا الثعلب السياسي المخضرم كان سبباً في تردده بداية الأمر في التدخل المباشر في الصراع العربي الإسرائيلي. ولكن عندما اقتحم هذا المعترك من بوابة الحرب والدبلوماسية، دخل تاريخ الشرق الأوسط من أوسع أبوابه، وترك بصمات راسخة لا يمكن محوها بين صحاريه الشاسعة ووديانه العميقة.

مع تصاعد الأصوات الداعية إلى التهجير القسري، فإننا نفتقد بشدة إلى ذلك السياسي الغربي المنحاز بعقلانية، الذي يدرك الحدود جيداً ويراعي التوازنات الدولية الدقيقة، قبل أن ينخرط في مشروع عنصري بغيض لا مثيل له في تاريخ المنطقة الحديث.

ولكن لماذا نتذكر كيسنجر تحديداً؟ ببساطة، كان كيسنجر العقل المدبر للكثير من التوازنات السياسية الدقيقة في منطقة الشرق الأوسط، وما زالت بصماته واضحة وجلية في السياسات التي تتبعها الولايات المتحدة تجاه المنطقة حتى يومنا هذا. لقد كان ذلك السياسي المنحاز بعقلانية الذي تفتقده المنطقة بشدة في هذه المرحلة الحرجة.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة